الإحالة في المسائل الإرثية
لعلّ مسألة الإحالة في القضايا الإرثية هي من أكثر القضايا أهمية في الإجتهاد اللبناني الحديث المتعلق في القانون الدولي الخاص.
إن السؤال الأساسي الذي كان على قضاة الأساس أو محكمة التمييز حلّه في مختلف المراحل، على صعيد القانون الدولي الخاص، هو ما إذا كان القانون الأجنبي، أي قانون جنسية المتوفي، هو الذي يطبّق على التركة فيما إذا كان قد توفى في لبنان أو ترك فيه أموالا عقارية. أم أنه يجب تطبيق القانون اللبناني وفي شكل خاص قانون 23 حزيران 1959 المحال إليه من القانون الأجنبي الذي يطبِّق قانون مكان وجود العقارات. الإجتهاد اللبناني الحديث ثبت في رفض تطبيق الإحالة، على اعتبار أنه غير قابل للتطبيق لأن قانون 23 حزيران 1959، ليس النظام القانوني العام، وهو تشريع ممّيز ويطبق فقط على بعض الطوائف.
والجدير بالذكر أن مبدأ الإحالة هو من الوسائل المعتمدة في القانون الدولي الخاص اللبناني حتى أنه ملزم بحسب المنطق القانوني غير أنه مبعد في الحالات التي يشكل في تطبيقه مشكلة.
لذلك سنبدأ بالدراسة بداية مسألة قبول الإحالة كمبدأ في القانون الدولي الخاص اللبناني لنتطرق بعدها الى المسألة الخاصة في استبعاده في القضايا الإرثية.
-I قبول الإحالة كمبدأ في القانون الدولي الخاص.
1- واقع النظام القانوني اللبناني كسبب لرفض تطبيق الإحالة في مادة الإرث
إن القانون اللبناني فيما يختص بتركات الأجنبي اعتمد في المادة 231 من القرار 3339 إخضاع تركة الأجنبي الى قانون بلاده. فالمشترع كرس القانون الشخصي في حالات الإرث لعدة أسباب يمكن تلخيصها من ناحية، باحترام إرادة المتوفي المقدّرة، بأن تُخضع تركته إلى قانون بلاده طالما لم تصدر عنه رغبة معاكسة بالإيصاء، ومن ناحية أخرى إعطاء الضمانات الكافية للأجانب بأن يُخضِعوا في توزيع تركتهم إلى قانونهم الشخصي،إذ اعتبر نظام الإرث داخلا في عداد أنظمة الأحوال الشخصية ويطبق على الأشخاص أينما وجدوا.
من ناحية أخرى، اعتمدت
ايضا الأسباب التي اقترحها الفقه
لرفض مبدأ الإحالة كنظرية الحلقة
المفرغة أو كما اعتمدت محكمة التمييز
في قرارها الصادر في 28 أيار عام 1998
حجة "عدم الملاءمة مع المبادىء
الأساسية الأجنبية". لعله من المهم
الاخذ بعين الاعتبار، حفاظا على
التعاون مع الدول الأجنبية، مفهومها
للنظام العام الدولي. إن اتخاذ محكمة
التمييز هذا الموقف الذي يمكن وصفه
بالشجاع لجهة التنبه للنظام العام
للدولة الأجنبية في قضايا الإحالة.
إن هذا الموقف بنظر Battifol و Lagarde
يندر في القانون الدولي الخاص
المقارن:
Il existe cependant quelques hypothèses exceptionnelles où
il a été proposé que le juge du for puisse” prendre en
considération les exigences d’un ordre public étranger. La
première est celle où le juge saisi doit appliquer une règle
de conflit étraère, par l’effet du renvoi ou en tranchant une
question préalable non autonome. Le juge devrait, a-t-on pensé,
écarter cette règle de conflit si la loi qu’elle désigne était
contraire à l’ordre public de l’Etat renvoyant ou de l’Etat
dont la loi régit la question principale”
بالتالي إن محكمة التمييز في هذا
القرار كانت قد اعتمدت حلا منصفا
للولد الطبيعي باعتمادها القانون
الفرنسي الذي هو القانون الشخصي
لوالده المتوفي. فلو اعتمدت القانون
اللبناني لكانت طبقت مبادىء لا يمكن
استيعابها في النظام الفرنسي. غير
أنه يوجد استثناء للتنسيق مع النظام
العام الدولي المعروف في الدولة
الأجنبية، هو الحالة التي يكون تطبيق
القانون اللبناني هو تكريس لأحد
المبادىء الأساسية للنظام القانوني
اللبناني فتحصل إحالة معاكسة إلى
النظام العام الدولي اللبناني مبعدا
بالتالي القواعد الأجنبية.
إن الهيئة العامة
لمحكمة التمييز في قرارها المبدئي
الصادر في 21 أيلول 1961 اكتفت بتحليل نص
المادة 231 من القرار 3339 معتبرة أنه
نصا مطلقا ومتعلق بالنظام العام.فالهيئة
العامة لمحكمة التمييز، وفي رفضها
لمبدأ الإحالة لم تضع النص في إطاره
السليم إذ أنه يتناول حالة دولية
خاصة، فلا يمكن الإستنتاج أنه من
الضروري رفض مبدأ الإحالة.فالمشترع
قد قصد من النص إخضاع تركة الأجنبي
إلى قانون دولته.فهنا تكون المسألة
في ظل القانون الدولي الخاص: ما هو
المقصود بالقانون الشخصي للمتوفي؟
هل هو القانون المادي الأجنبي أم
أيضا قاعدة النزاع الأجنبية؟
إن تعذر تطبيق الإحالة لم يقصد به في
لبنان رفض لنظرية الإحالة وإنما
استبعاد تطبيقها كلما كان هناك عدم
ملاءمة في ذلك التطبيق، لذلك يبقى في
الإمكان تطبيقها في الحالات التي لا
يتعذر ذلك، كما في الحالة التي تكون
الإحالة إلى تشريع موحّد لدولة ثالثة
أو من قانون دولة يحكمها نظام قانوني
مماثل أو تخضع فيها الأحوال الشخصية
والتركات لاحكام قانونية لها ما
يقابلها في لبنان. لذلك بحث في لبنان
مسألة كون قانون الإرث لغير
المحمديين تاريخ 23 حزيران سنة 1959 هو
القاعدة القانونية العامة لمادة
الإرث في لبنان.
2- قانون الإرث
الصادر سنة 1959 ليس القانون العادي
إن التسليم بأن الإحالة هي نظرية
مقبولة مبدئيا غير أنها غير قابلة
للتطبيق بسبب العوائق المذكورة آنفا
جعلت بعض المحاكم تجازف في تطبيق
الإحالة إلى القانون اللبناني في
الأحوال الإرثية على أساس أن قانون
الإرث الصادر في 23 حزيران هو النظام
القانوني المشترك أو العادي
اللبناني للأحوال الإرثية. فقد اعتبر
أن هذا القانون قد صدر عن المشترع
المدني وليس عن مرجع طائفي، كما أن
المحاكم المدنية هي المختصة للنظر
فيه وليس المحاكم الطائفية. لوحظ أن
القانون لم يتضمن أحكاما تتعلق
بطائفة من الطوائف إنما أحكامه جاءت
شاملة بالنسبة لميدان تطبيقه إلا ما
انحصر في استثنائه.
فإميل تيان أيد هذه الصفة لقانون 1959 :
“La nouvelle loi institue le système successoral de droit
commun au Liban. Aussi bien, elle est intitulée "Loi
sur les successions" sans autre spécification, et aucune
des dispositions ne vise telle communauté ou telle autre en
particulier. Cependant une disposition spéciale de la loi (art.128)
stipule qu'elle n'est pas applicable aux communautés musulmanes
qui restent régies par leurs systèmes respectifs antérieurs.”
إذا أردنا تحليل ما هو القانون
العادي أو النظام القانوني المشترك
نجد تفسيرا يحدده على أنه القانون
الذي يطبق مبدئيا على جميع الأشخاص و
على جميع الأعمال. فهذا القانون
مطبّق على جميع الحالات غير
المستثناة. وبالفعل، إن قانون عام 1959
هو المطبق جميع الحالات غير
المستثناة أي على جميع الغير محمديين
فيكون بالتالي القانون العادي في
القضايا الإرثية في لبنان. نجد هذا
الطابع أيضا في مشروع القانون الذي
كان موجها بالاصل لتنظيم الارث لجميع
الطوائف اللبنانية غير أنه نتيجة
للضغوط السياسية والاجتماعية انحصر
بالطوائف الغير محمدية. إن تعبير "الغير
محمديين" رأى فيه البعض أنه يشمل
جميع الديانات الأخرى في العالم. غير
أنه طرح جدل في خصوص كون هذه الديانات
يجب أن تكون تلك المعترف بها في لبنان
أم لا غير أن العبارة المعتمدة في
قانون عام 1959 وعدم ورود توضيحات أخرى
تجعل نطاق هذا القانون هو جميع
الديانات الأخرى المعترف بها وغير
المعترف بها.
إن الرد على هذه النظرية، التي ترى في
قانون الإرث لسنة 1959، أتى على أساس أن
المادة 128 من هذا القانون هي التي
سمحت بإقراره أي أن الإستثناء الحاصل
في عدم تطبيقه على الطوائف المحمدية
كان السبب الموجب للقانون وليس
إستثناء. كما أنه كون تطبيق وتفسير
هذا القانون هو من صلاحية المحاكم
المدنية لا يمكن اعتباره حجة كافية
فالاجتهاد ثبت في السماح للمحاكم
المدنية تطبيق القوانين الطائفية.أما
فيما يتعلق بصدور قانون 1959 عن السلطة
التشريعية فتوجد سابقة لتصديق قانون
طائفي من السلطة التشريعية هو قانون
24 نيسان عام 1948 المتعلق بالأحوال
الشخصية للطائفة الدرزية الذي يتضمن
أيضا أحكام الإرث وهو ليس قانون عادي.
غير أن السبب الأساسي الذي يصطدم مع
اعتبار قانون الإرث الصادر عام 1959
القانون العام هو العامل النفسي
السائد في لبنان.فوجود المساواة بين
الطوائف في جميع الميادين الوطنية
يولد شعورا رافضا لدى البعض في جعل
الشريعة المطبّقة على احد الطوائف هي
القانون العادي في المادة.
النتيجة
عبر عرض مبدأ الإحالة كنظرية
يفرضها المنطق القانوني في القانون
الدولي العام وبحث الأسباب التي لا
تسمح تطبيقه في القضايا الإرثية
نلاحظ أن المشكلة ليست في نظرية
الإحالة كمبدأ بل في طبيعة الأنظمة
المتعددة الشرائع على أساس شخصي.
لذلك نرى أنه بدل أن نبحث في القضايا
الارثية عن اسباب تحجب عن قانون 1959
طابعه العام حتى لا نجبر على تطبيق
مبدأ الاحالة، كم أنه مهم البدء في
تأسيس قانون مدني يكون الى جانب
القوانين الطائفية حتى نحصل على
قانون محلي(loi du for) بحسب مفهوم
القانون الدولي الخاص.هذا القانون
يمكن تطبيقه مثلا على الزيجات
المدنية للبنانيين الحاصلة في
الخارج والتي تخضع حاليا للقانون
الاجنبي .
كما نأمل حاليا وبانتظار القانون
المدني اللبناني، أن تحافظ
الاجتهادات اللبنانية على دورها
التجديدي مع التأني في اتخاذ المواقف
خاصة في موضوع هو على قدر من الدقة هو
القانون الدولي الخاص حتى يحسب
للبنان أيضا بين باقي الدول دوره في
القانون الدولي الخاص المقارن.